قراءة ثقافية في كتاب من بابل إلى بغداد لسعيد الغانمي

قراءة في كتاب “من بابل إلى بغداد: التراث البابلي في الأدب العربي” لسعيد الغانمي

عرض كتاب

مدخل:

يتابع الكتاب أشكال التَّكييف للأساطير البابليَّة حينما تصل إلى الآداب المجاورة، ولا سيَّما حين تنتهي إلى الأدب العربي، وكذلك أنماط الأصناف الأدبية، وموضوعاتها؛ مثل ذبح التنين، ومصرع البطل ومبعثه، وأسطورة مولد البطل، وتشكُّل الحكايات البطولية، والأمثال. ويلاحق الأساطير في طرق انتقالها من التراث البابلي وصولًا إلى الأدب العربي مباشرةً، أو من خلال الطرق الموسوطة التي مَّرت بها.

طُبعَّ كتاب الغانمي في دار الرافدين في بغداد عام 2023م، واضعًا الثقافة العربية تحت مجهر التحليل، مشككًا في أصالتها، باحثًا عن عناصر اندست فيها من ثقافاتٍ أخرى، ويوضح الدكتور الغانمي خطوط سير الكتاب في مقدمته بقوله: “عمل أراد أن يتفحص أثر ثقافة عاشت بعدها في المنطقة نفسها بعد عشرات القرون، ولا يوجد اتصال مباشر بين الثقافتين، بل هو اتصالٌ موسوط يمر عبر ثقافات أخرى، ويحمل طابعها في الوقت نفسه”[1]، ونستشف من حديث الغانمي وبناءً على مقدمة كتابه، بأنَّه لا يبحث في الأدب العربي كأدب ولا في الأدب البابلي كأدب، بل عن العلاقة التي تحدت الزمن بين الحضارتين، والفواصل الثقافية، ونقصد بالعلاقة (مظاهر التأثير) أي ما وصلنا من الأدب البابلي رغم كل الحواجزِ والعقبات.

عنوان الكتاب:

لو أردنا قراءةُ العنوان قراءةٌ ثقافية، كاشفةً المضمر منه، فيمكن التطرق إلى عدة جوانب محورية تعكس عمق الفكرة التي يعبر عنها الكاتب من خلال اختياره لهذه الكلمات، مُلخصًا إياها كالآتي:

أولًا: الجزء الأول من العنوان (من بابل إلى بغداد):

يشير هذا الجزء من العنوان إلى رحلةٍ زمنية وجغرافية بين مدينتين تاريخيتين مهمتين في الحضارة الإنسانية.

بابل التي تمثل الحضارة السومرية والأكادية والبابلية القديمة التي ازدهرت في العراق القديم، بينما بغداد تمثل عاصمة الخلافة العباسية والعصر الذهبي للحضارة الإسلامية، والانتقال من بابل إلى بغداد يشير إلى تحول ثقافي وفكري بين حضارتين متعاقبتين، ولكن هناك جسر يربط فيما بينهما وهو (جسرٌ ثقافي) فبالنهاية من وإلى، أي من بابل إلى بغداد، والفرق الزمني ما بين الحضارتين لا يضعنا إلا في زاوية البعد الثقافي.

وأيضًا يوحي العنوان إلى الربط ما بين الحضارتين أي بأنَّ هناك استمرارية تاريخية وفكرية بين بابل وبغداد، وكأنَّ الإرث الحضاري الذي بدأت به بابل قد أُعيد إحياؤه أو نقله إلى بغداد، وهذا الربط يحيلنا إلى فكرة أنَّ الأدب العربي لم ينشأ من فراغ، بل اُستلهِم من الحضارات القديمة التي سبقت الإسلام.

ولو نظرنا من الناحية الرمزية فــ (بابل وبغداد) ليستا مجرد مدن جغرافية، بل هما رمزان لحضارتين عظيمتين، بابل تشير إلى الفنون، والعلوم، والأساطير القديمة، بينما بغداد تشير إلى الحضارة الإسلامية وازدهار العلم والفكر في عصرها الذهبي.

ثانيًا: الجزء الثاني من العنوان (التراث البابلي في الأدب العربي):

نستطيع قراءة هذا الجزء من العنوان في نقطتين محوريتين، المضمون الثقافي والفكري، والأبعاد الفلسفية.

يكمن هذا المحور في استخدام الغانمي لمصطلح “التراث”، ومصطلح التراث يشير إلى التركة الثقافية والفكرية التي خلفتها حضارة بابل، فالعنوان يوحي بأنَّ التراث البابلي، سواء من ناحية الأساطير أو العلوم أو الفكر، قد تسرب إلى الأدب العربي، مع الإشارة بأنَّ هذا المفهوم يثير تساؤلات حول كيفية نقل هذا التراث عبر الزمن، وكيف تمت الاستفادة منه في السياقات الأدبية والفكرية للعصر الإسلامي.

التراث البابلي معروف بتعدد أساطيره الفلسفية حول الحياة، الموت، الخلود، والآلهة، فنستطيع القول: بأنَّ العنوان يشير إلى أنَّ هذه الموضوعات قد أثَّرَت في الأدب العربي، خاصة في القصص والأساطير التي تتناول موضوعات مشابهة.

ثالثًا: ما وراء توظيف (الأدب العربي) في العنوان:

إنَّ توظيف مفهوم الأدب العربي في العنوان لا يتأتى من الفراغ، فنستطيع قراءة ذلك من خلال التأثير الحضاري أي أنَّ العنوان يركز على الأدب العربي كمرآة للتأثيرات الحضارية التي تلقاها من بابل، وهذا يشير إلى أن الأدب العربي ليس مجرد نتاج للعقل العربي وحده، بل هو تفاعل بين الثقافات المتنوعة التي احتكت بها الحضارة العربية.

وأيضًا نستطيع قراءة ذلك من خلال (التنوع الأدبي)، فهو لم يحدد نوع أدبي خاص، بل ذكر الأدب العربي عمومًا ليشمل الشعر، القصص، السرد، الأساطير، الفلسفة، وغيرها من الأشكال الأدبية، فالتركيز على الأدب كوعاء للتأثير البابلي يوحي بأنَّ هذا التراث تسرب إلى أشكال مختلفة من الإبداع الأدبي، مما يدعو إلى دراسة كيف تجلى هذا التأثير في النصوص الأدبية المختلفة.

ففي نهاية الأمر ومن خلال العنوان وحده وحتى لو تطرقنا إلى ما قدمه سعيد الغانمي من مقدمة في كتابه، فالعنوان يدعونا إلى إعادة تقييم التفاعل الحضاري بين العرب والبابليين، مؤكدًا أنَّ عامل التأثير هو من سيلعب الدور الرئيسي في ثنايا الكتاب، مُثيرًا أسئلةً في مخيلتنا.

خط سير الكتاب:

جاء كتاب “من بابل إلى بغداد: التراث البابلي في الأدب العربي” لسعيد الغانمي في عشرة فصول، سبقها مقدمة وتلاها قائمة للمصادر والمراجع.

ابتدأ الغانمي فصله الأول بالحديث عن تعاقب الحقب الثقافية، والطبقات الأثرية والثقافية، والانقطاع الثقافي والاتصال المكاني، والبُحتُريُّ وآثار الساسانيين، وبناء الأسطورة ومضمونها، والغلاف التخييلي والمحتوى التبليغي، وهذا كله تحت إطار العرب والحضارة البابلية.

أما الفصل الثاني من الكتاب والذي وسم بذبح التنين وخلق العالم، فقد تطرق إلى الأسطورة وذبح التنين، وملحمة الخليقة البابلية، والتنين الكنعاني في أسطورة بعل، والتنين اليَهَويّ والكَهَنوتيّ، والتنين الإغريقي، وتنين وهِّب بن منبِّه، وتنين سيرة الإسكندر.

أما الفصل الثالث فقد عَنون أسطورتي تموز وأدونيس صفحة غلاف الفصل، وذلك تحت عنوان تموز وأدونيس مصرع البطل ومبعثه، ذاكرًا تموز في النسخة الآشورية، ودموزي في النسخة السومرية، وأوزيريس في رواية بلوتارخ، وأدونيس في الأدب الإغريقي، وتموز في العصر الهلنستي، وتموز والحرانيون، وفريزر وأدونيس، واستعارة الموت الملحمي، وحاول الغانمي في هذا الفصل تقديم البنية البلاغية التي تنطوي عليها الأسطورة، فيما تسميه باستعارة (الموت الملحمي) لآلهة الخصوبة أو الأبطال الخارقين في العالم القديم ممن يمتلكون القدرة على الانبعاث بعد خوض تجربة الموت.

أما الفصل الرابع فقد تطرق فيه إلى المخلوق المجنح إله العاصفة أي (الطائر زو)، والطائر العنقاء على مختلف رواياته بناءً على الحضارة المدجج في ثناياها، مُسَطِرًا عناوينه كالآتي: “أسطورة الطائر زو”، “عروج إيتانا إلى السماء”، “العنقاء في الأسطورة المصرية”، “العنقاء في التراث الإغريقي”، “النسور في التراث العربي”، “العنقاء في الشاهنامه”، “السندباد وطائر الرُّخّ”.

أما الفصل الخامس من الكتاب (أسطورة مولد البطل ونظائرها في الأدب العربي) سرجون الأكدي وأسطورته، فرويد وأسطورة مولد البطل، أسطورة مولد جلجامش، مولد داراب في سيرة الإسكندر، وأسطورة مولد عمرو بن عدي، ومولد سيف بن ذي يزن، يضعهم الغانمي تحت مجهر التحليل، وذلك تحت عنوان عناصر تحليل الأسطورة، مُشيرًا إلى ما يشترك بها تلك الأساطير من خلاصة الموضوع، وذلك بأنَّهم جميعهم ينطون على موضوعة الخلاص من الطفل الصغير، بحيث تشكل هذه الموضوعة أساس الحكاية المروية.

وبعد ذلك يتطرق الكتاب في الفصل السادس إلى أخبار الآلهة المتنكرة، وفي الفصل السابع إلى ابتكار الأصناف الأدبية من أدب المناظرة وحكاية الحيوان وأدب الأدعية والتراتيل، وكتابات العهود والوصايا، ليأتي بعد ذلك الفصل الثامن ذاكرًا ما تُشكل الحكايات البطولية، ومن ثم الفصل التاسع موسومًا بـ(أمثال أحيقار)، والفصل العاشر (صنف رثاء المدن).

قراءة في كتاب الغانمي:

لو ذهبنا إلى القسم الثالث من الفصل الأول في الكتاب (الانقطاع الثقافي والاتصال المكاني) سندرك مسألة الاحتكاك غير المباشر ما بين العرب والأدب البابلي واللغة البابلية، ولكن يشير الغانمي في هذا القسم إلى الاتصال المادي مع آثارها وأبنيتها مثل: الزقورات والتماثيل وحجارة الحدود، (والزقورات هي معابد على شكل أبراج أو جبال مقدسة، بدت للعرب كألغاز معمارية بسبب طابعها المصمت وعدم وجود أبواب أو مداخل).

والعرب، مثل (المثقف التنوخي)[2]*، سجلوا مشاهداتهم لتلك الأبنية بأسلوب يمزج بين الملاحظة والخيال الشعبي، إحدى الزقورات التي وصفت وُجدت بين واسط والبصرة، وكان من الصعب فهم الغرض من تلك الأبنية بسبب انقطاع المعرفة الدينية المرتبطة بها، فهذا الأمر جعل العرب ينسجون أساطير تفسر هذه الأبنية، مثل أسطورة الرجل الذي بنى الزقورة ليحارب الله وتحول إلى صنم.

كما تطرق الغانمي في ذات القسم إلى مفهوم حجر الحدود (كدّرو)، وهو نصب حجري يعود للعصر البابلي، كان يستخدم لتوثيق منح الأراضي، لكنه أصبح رمزًا للغموض والخوف لدى العرب، بعض القرويين حاولوا نقل حجر الحدود، لكن الحجر كان يعود لمكانه الأصلي بطريقة غامضة بعد نقله، مُرافقًا ذلك جريمة كقتل بعض الأشخاص على سبيل المثال، ما أدى لربط هذه العملية بقصص خرافية عن السحر والعقاب الإلهي.

فبالنهاية يبرهن الغانمي من خلال هذه الأمثلة على الانقطاع الثقافي ما بين الحضارتين البابلية والعربية، أي بأنَّ هناك عدم قدرة من العرب على استيعاب المعاني الدينية والثقافية لتلك الأبنية والآثار، فهذا الانقطاع يظهر واضحًا في طريقة التفسير الأسطوري للأبنية البابلية، مثل الزقورات التي فسروها على أنها أبنية غامضة أو حتى شيطانية، ولكن في ذات الوقت هناك اتصال مكاني يربط الحضارتين.

فتفاسير العرب كانت ذات طابع شعبي اعتمد على الأساطير والمخاوف التي تشكلت حول هذه الآثار، وهذا يشير إلى ضعف في التواصل الثقافي بين الماضي والحاضر، حيث انقطعت المعرفة الخاصة بالمعابد القديمة وحجارة الحدود البابلية.

ومن جانب آخر، نستطيع قراءة حديث الغانمي كيف أن الذاكرة الشعبية والعجائز حافظوا على بعض الروايات المتعلقة بتلك الآثار، ولكن هذه الروايات غالبًا ما كانت مختلطة بالخرافات والأساطير، فأرى بأنَّ مفهوم الاندهاش والاحترام الغامض تجاه الماضي كان يسيطر على ظاهر النص تجسيدًا لرؤية العرب حينها وأقصد العرب أثناء الحكم العباسي.

والكتاب يضيء الأساطير وحكاياتها على مختلف رواياتها بدءًا بعناوين فصوله، وصولًا إلى هوامش صفحاته، بالإضافة إلى تطرقه لقضايا مهمة كبناء الأسطورة ومضمونها، والأصناف الأدبية وابتكارها من أدب المناظرة وحكاية الحيوان وأدب الأدعية والتراتيل وكتابات العهود والوصايا.

يقدم سعيد الغانمي في دراسته حول “أدب المناظرة” قراءة معمَّقة للأصول الثقافية والأدبية لهذا النوع الأدبي، مشيرًا إلى جذوره السومرية والبابلية، ومقارنًا إياه بالأدب اليوناني والإسلامي، وبعد قراءتي لجزئية أدب المناظرة، حاولت جاهدًا أنْ أبرز حديث الغانمي من خلال ثلاثة محاور رئيسة:

أولًا: البعد التاريخي والثقافي لأدب المناظرة:

ينطلق الغانمي من تأكيده على أن أدب المناظرة صنف سومري أصيل، ويُظهر مدى تأثر الحضارات اللاحقة، مثل البابلية وحتى الأدب العربي، بهذا الصنف الأدبي، ويستعرض نصوصًا من الأدب السومري مثل “المناظرة بين الصيف والشتاء” والنماذج المماثلة في الأدب البابلي.

وأرى بأنَّه نجح في تأكيد (الطابع التأثيري) الذي تمارسه الحضارات الأولى على بعضها البعض، لكنه في الوقت نفسه قد أسرف في التركيز على الأصل السومري، متجاهلاً ربما جوانب أخرى من الأدب القديم التي قد تكون متأثرة بعوامل حضارية أو اجتماعية أكثر تعقيدًا، ولكن في ذات الوقت هو أقدم العصور في المنطقة فلا بد بأنْ يأتي بالأمور من جذورها.

وعلى الرغم من أن ما جاء به كان ثريًا بالنصوص والتحليلات، إلا أنه لم يقدم رؤية نقدية واضحة حول كيفية تحول هذا النوع الأدبي من مجرد تسلية أو احتفالية في البلاطات الملكية إلى ظاهرة ثقافية أكثر شمولًا في المجتمعات اللاحقة وصولًا إلى العرب، وكأنه قفز قفزة بأنَّ هذا تأثر من ذاك دون التعمق بحيثيات المشهد.

فربما كان من الأجدى أن يُضيف تحليلاً أعمق حول كيفية تكيّف هذا النوع الأدبي مع متغيرات العصر في كل مرحلة، وكيف تعكس المناظرات القيم الثقافية والاجتماعية لكل حضارة، ولكن في نهاية الأمر وارتباطًا فيما قدمه في مقدمة كتابه بقوله بأنَّ هذه الدراسة دراسة أدبية بعيدة عن منهجيات دراسات الآثار وعلومه، فأننا نستطيع القول بأنَّه أبان ما يهمنا في هذه المسألة أي هناك تأثر ما بين الحضارات رغم البعد الزمني فيما بينهم، وهذا يعيدنا إلى ذات المسألة التي تحدثنا بها في الفصل الأول من الكتاب (الانقطاع الثقافي والاتصال المكاني).

ثانيًا: تأثر الأدب العربي بأدب المناظرة:

ينتقل الغانمي إلى تحليل أدب المناظرة في العصر الجاهلي والإسلامي، مركزًا على الجاحظ الذي يُعدّ أحد أبرز من استخدم هذا النوع الأدبي، ويُظهر براعة في ربط أسلوب الجاحظ بفكرة “نسبية المعرفة” التي تميّزه، وجاء هذا التركيز لأغراض بلاغية وفكرية.

ثالثًا: النقد الثقافي والتحليل الرمزي:

من أبرز إسهامات الغانمي التي لاحظتها، هو تناوله للتحليل الرمزي في المناظرات السومرية والبابلية، وكذلك المناظرات الإسلامية مثل مناظرات الجاحظ، وأشار إلى أن هذه المناظرات تعكس أحيانًا صراعًا ثقافيًا أو اجتماعيًا بين الظواهر أو القيم المختلفة.

مثلاً، في تحليله لمناظرة “الصيف والشتاء”[3]*، يشير الغانمي إلى قرار الإله إنليل الذي يحسم النزاع بين الفصلين، لكنه لم يعطِ اهتمامًا كافيًا للتأويلات الرمزية الممكنة لهذا الحَكَم في سياقات اجتماعية أو دينية أوسع، إذ يمكن أن تمثل هذه المناظرات رمزًا للصراع بين الطبقات أو الفئات الاجتماعية المختلفة، أو تعكس القلق الاجتماعي حول الموارد والبيئة، فمثل هذه التأويلات كانت ستُضيف بعدًا ثقافيًا أوسع لتحليله، ويمكن أن تساعده بالربط ما بين الروايات الأدبية بشكل أفضل.

ونحن هنا لا نريد حيثيات القصة بقدر معرفة مدى التأثر ما بين أدب الحضارات، فيذكر الغانمي أيضًا بأنَّ ذات المناظرة أي “الصيف والشتاء”، وصلتنا في كتاب (الفلاحة النبطية)[4]*، ولكن ببعض الجزئيات المغايرة، ولكن عندما انتقل هذا الأدب (أدب المناظرة) إلى الأدب العربي فيما بعد، ظهر في أشكال مثل “المنافرة” أو “المفاخرة”، حيث يتنافس شخصان على إبراز الفضائل والقدرات الشخصية.

عده الغانمي أقدم وأهم الأصناف الأدبية التي ظهرت في الحضارات القديمة، مثل السومرية والبابلية، إذ نشأ هذا الأدب كمحاورات متبادلة بين طرفين أو خصمين في إطار احتفالات وأعياد البلاطات الملكية، حيث كانت تُناقَش موضوعات مختلفة مثل الفصول أو الحيوانات أو النباتات، بالإضافة إلى اعتماد هذا النوع من الأدب على الجدل وتبادل الحجج بشكل شعري، ويهدف إلى إقناع المستمع بحجة أحد الطرفين، على أن يُحسم الأمر بحكم خارجي، غالباً (إله)، يفصل بين المتنازعين.

كان لهذا النوع من الأدب مكانة كبيرة في بلاد ما بين النهرين، وذكر الغانمي بأنَّه وجدت العديد من النصوص السومرية والبابلية التي تمثل هذا الصنف، وكان الأسلوب السائد يعتمد على تشخيص الكائنات غير البشرية ومنحها صفات إنسانية للتعبير عن آرائها، كما يظهر في المناظرات بين الحيوانات أو فصول السنة، ومن الأمثلة على هذه المناظرات، المناظرة بين (الصيف والشتاء) والتي تُظهر كيف يمكن استخدام الحجج الأدبية للتعبير عن التناقض بين قوى الطبيعة.


([1]) الغانمي، سعيد، من بابل إلى بغداد: التراث البابلي في الأدب العربي، 2023م، دار الرافدين، بغداد، ص235

* أديب ومؤرخ من العصر العباسي.

* مناظرة (الصيف والشتاء): هي نزاع بين أخوين (الصيف / الشتاء)، والإله إنليل عالج هذا النزاع بتقسيم الموارد ما بين الأخوين فالصيف يأخذ الأشجار والفواكة، وإلخ.. والشتاء تتوالد الأغنام والماعز وتكثر الألبان وتشيع الخضرة في كل مكان. فدبت الغيرة بينهما، وتصاعد الحسد، وصار كل منهما يعدد مزاياه ويفتخر بها، ليأتي الحَكَم وهو الإله إنليل قائلًا: “في ذمة الشتاء المياه التي تخصب الأرض، وهو فلاح الآلهة، الذي ينتج كل شيء. فيا ولدي أيها الصيف، كيف تقيس نفسك بأخيك الشتاء؟”.

* كتاب الفلاحة النبطية: نسبه مترجمه إلى ابن وحشية (قوثامي الكسداني) وهو بعد البحث عنه مجهول المولد والوفاة، ولكن يرجح بأنَّه كلداني عاش في بلاد الرافدين.

Exit mobile version